مقالات تربوية - 6 ديسمبر، 2021

سجن العقل

مبارك عامر بقنه

يعيش الكثيرون منَّا على مستويات مختلفة داخل ما يُمكن تسميته “السجن العقلي”، وهو أن هناك مَن يعيش حياة مريحة فيها الحرية التي يريدها، لكن تجده من الداخل مقيدًا بقيود عقلية ونفسية وعاطفية، والشيء المؤلم أن هذه القيود يتم تعزيزُها مع مُضي الوقت، وهو يعزِّزها بوسائل كثيرة، نذكر منها ثلاثًا.

أولًا: من خلال العادات، بعضُ العادات التي يتبناها الإنسان تعمل على تقييد الإنسان، وتُسهم بشكل قوي في عدم انطلاقه وتحرره مِن كثيرٍ مِن الأوهام.

فالعادات لها تأثيرٌ قوي على الفكر والسلوك، فالإنسان يمارس شيئًا ويكرره دائمًا، وهو في أصله خطأ، ولكن لغياب الوعي والمتابعة الذاتية لا يدرك هذا الخطأ وأثره السلبي على عقله ونفسيته، وإنها تجعله أسيرًا داخله سجنه العقلي.

ثانيًا: التركيز: إن حياتنا ببساطة هي ردة فعل على الأحداث التي تحدث في حياتنا، فهذه الأحداث التي تحدث في حياتنا تجعلنا نركِّز فيها، ولا نخرج منها، فنكون ضحايا لأحداث حياتنا، فيأسِرنا عقلنا في هذه الأحداث، فاستجابتنا لما حدث يكون فيه مبالغة، فالإنسان لا تخلو حياته من تحديات، ولكن أن يبقى تركيزه متوقفًا في ذلك الحدث زمانًا ومكانًا، هو نوع من الأسر العقلي المرهق.

فمن الخطأ القاتل التي نرتكبه ويُبقينا مسجونين – أننا نميل إلى التركيز على ماضينا على الجزء السلبي في ماضينا، وفي الحقيقة بهذه الطريقة يكون الإنسان أسيرًا للأحداث السلبية التي مرت عليه، وغالبًا أنها ستكون عائقا له عن التقدم للأمام.

علينا أن نتذكر أن الماضي هو مكان مرجعي، وليس مكان إقامة، ولك أن تتخيل وأنت تقود سيارتك حيث يجب أن ننظر أمامك جيدًا، ماذا سيحدث إذا كنت بدلًا من النظر أمامك تركز على ما كان وراءك، قطعًا سترتكب حادثًا، وأنت ترى عندما نقود سيارتك هناك مرآة للرؤية الخلفية، تظهر لنا فقط جزءًا يسيرًا للخلف، فما كان خلفك انظر فقط إلى جزء يسير منه، لكن بقية تركيزك يجب أن يبقى نحو الأمام، ولو عكس الإنسان الرؤية، وجعل رؤيته للخلف أكبر من رؤية ما أمامه، فإنه لن يتمكن من المسير قدمًا.

ثالثًا: ضيق الرؤية، هناك من يعيش ولا يرى في حياته إلا جانبًا واحدًا، فهو أشبه براكب في القطار يرى جانبًا واحدًا، ولا يرى الجانب الآخر، وقد يكون هذا الجانب الذي يراه مظلمًا لا حياة فيه، فيبقى أسير هذه الرؤية الخاطئة، وهذه ليست الحياة، الحياة مسار طويل به قمم ووديان، فحينًا يرتقي للقمة، وحينًا يهبط للوادي، فرؤية المرء للحياة يجب أن تكون أوسع وأشمل؛ كي يقترب من فهم الحياة، ويتحرَّر مِن وهم رؤيته الخاطئة، نحن نميل أحيانًا إلى التفكير في اللحظات السيئة في حياتنا، ونضخِّم تلك اللحظات، ونجعلها كأنها هي حياتنا، ولا يمكن تجاوزها، ونتجاهل وننسى اللحظات الجميلة في حياتنا، هذا التضخيم للأمر السلبي والتغافل عن الأمر الإيجابي في حياتنا، ينعكس أثره على الذهن؛ حيث يصبح المرء تفكيره سوداويًّا لا أمل يرجوه، فإذا سقط فيصعب عليه النهوض؛ لأنه لا يرى الحياة إلا حُفرًا.

من حقائق هذه الحياة أنها مزيج من الخير والشر، فالدنيا صعود وهبوط، وإذا كانت شبيهة بمسار السكة الحديدية، فإن اختيارك أيَّ جانب من مسار السكة الحديدية هو الأمر المهم، فإن الأشياء التي تختار التركيز عليها ستصبح في الحقيقة بارزة في حياتك، وستصبح مؤثرة في عقلك، فالأشخاص الذين يركزون على المشاكل دائمًا، فإنهم لن يروا إلا المشاكل في حياتهم، وبمجرد أن يحل هذه المشكلة، سيجد مشكلة جديدة يجب التركيز عليها، فكل ما يراه هو المشاكل، وتكون هذه حياته؛ لأنه اختار أن يركِّز على هذا الجانب، ثم يلوم الحياة، والحقيقة عليه أن يلوم نفسه؛ لأن هناك نِعمًا في حياته لم يلتفت إليها، لكنه اختار التركيز على المشاكل، ولم يختر التركيز على الخير الذي لديه، فهو قد يكون محاطًا بنعمٍ لا تُحصى، لكنه لا يراها بسبب تركيزه على المشاكل.

الإسلام يعطينا عدسة جميلة لرؤية الأشياء، وهي الصبر والشكر: “عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له”، هذه استجابة المؤمن لأي حدث، وهذا الحال فقط للمؤمن، فإذا حصل للمؤمن شيء لا يريده، فهو يستجيب له بصبر، وإن كان أمرًا جميلًا، استجاب له بشكر، هذه العدسة التي يجب أن يرتديها المؤمن لرؤية الحياة، وللتحرر من قيد اللحظة، فيكون قادرًا على العيش مع كل وضع في الحياة، ويكون قادرًا على مواجهة مصاعب الحياة دون أن يبقى أسيرًا من الداخل.

Share this:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

يا سلوة الخاطر

مبارك عامر بقنه إذا جنّ عليّ الليل أخذ الحنين يعصرني والشوق يؤرقني، فروحي قد تماهت بها لوع…