مقالات شرعية - 29 أغسطس، 2020

النصر مع الصبر

مبارك عامر بقنه

المعركة عندما تطول مع أهل الباطل فإن الغلبة والنصرة تكون لأصحاب العقيدة الصحيحة إذا تحلّو بالصبر والثبات على المبدأ ، فالعاقبة تكون لأهل الحق كما قال الله تعالى: « اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» كما قال الله تعالى : « إنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» فتأمل كم مكث فرعون يقتل في بني إسرائيل قبل مجيء موسى عليه السلام ثم كانت العاقبة للمستضعفين بعد صراع طويل ومرير مع أهل الباطل. وتأمل كم عانى يوسف عليه السلام في حياته ثم كانت العاقبة له، وعلّل يوسف عليه السلام نصره بشرطين ذكرهما الله تعالى في قوله : « إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» فهذان الشرطان هما مرتكز أسلحة المؤمنين: الصبر والتقوى. كما قرر البارئ سبحانه في التغلب على كيد الأعداء أيضاً بهذين الشرطين : « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» : « فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده. هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله ، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه ، ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يواد من حاد الله ورسوله، طلباً للنجاة أو كسباً للعزة!».

فالحرب لابد فيها من الصبر والأخذ بعزائم الأمور لأنها ستطول إذ لن يرضى الباطل أن يترك ساحة المعركة دون تقديم كل ما لديه من قوة، فسينتصر لباطله ويبذل كل ما يستطيع من قوة مالية وبدنية وفكرية من أجل القضاء على الحق قال الله تعالى : « وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا» فقتال أهل الباطل مستمر ولكنهم لن يستطيعوا أبداً أن يقضوا على الحق: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» فالإسلام قائم ومنتشر وسيزداد انتشارا بإذن الله تعالى فقد جاء عن تميم الداري، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر[2]»، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية.

وقد تقرر في شريعتنا أن النصر ليس بكثرة العدد والعدة ولكن بمقدار قرب المؤمنين من ربهم وبمقدار اعتمادهم وتوكلهم على الله عز وجل، حتى وإن خاضت الملائكة المعركة مع المؤمنين فإن النصر لن يكون بذلك؛ بل من الله عز وجل كما قال الله تعالى: «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» وكما قال سبحانه: « وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».

القوة المادية مطلوبة شرعا « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » ولكن مطلوب شرعا أن لا تغرنا وتفتنا ونظن النصر بهذه القوة المادية فنخسر المعركة. فالمؤمنون يستمدون قوتهم من الله، فاتكالهم الحقيقي يكون على الله وليس على أي منظمة أو هيئة أو جماعة أو دولة، وهذه القوى ــ إن ساندت المؤمنين لسبب ما ــ ما هي إلا بشرى ولكنها ليست هي السبب الحقيقي للنصر، فالله هو الذي يحقق النصر كيف شاء وبما شاء «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ» وكما قال عز وجل : « وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» فحقيقة النصر وكماله من الله عز وجل ولذا كان الاستمداد الحقيقي هو من الله أولاً وآخراً، فعادة الله نصر أوليائه وإن قل الجمع «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ». فالنصر بيد الله، فالله هو الذي يملك مقاليد الأمور، ولا يصير شيئاً خلاف ما يريد، ولكن لضعف إيماننا وقلة صبرنا تتعلق نفوسنا بالأشياء المادية المحسوسة، ولهذا قال الله بعد أن أنزل الملائكة لتنصر المؤمنين قال: « وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » فالقوة المادية هي من باب الاستئناس والاطمئنان فلا يكون الاتكال المطلق عليها.

فنصر الله للمؤمنين آت بإذن الله تعالى ولكن علينا أن نستمسك بالصبر، فالطريق طويل ومليء بالصعوبات، وما يجده المؤمنون من اضطهاد وضيم هو من البلاء والتمحيص ليميز الله الخبيث من الطيب، فلا يصيبنا اليأس والقنوط فتكون كوة يلج منها الباطل ليخدر بها عزائمنا وصمودنا، فالمعركة معركة ثبات وتمسك على المبادئ، فالمتمسك بمبادئه هو من سينتصر.

ومما يخشى على النفوس مع طول الابتلاء وضراوة المحن والفتن أن يصيبها الإحباط واليأس، لذا كان من المهم الاستعانة بالله تعالى والأخذ بالصبر، وإدراك طبيعة الصراع بين الحق والباطل أنه صراع أزلي، وأن أهل الباطل يفتنون أهل الحق في دينهم كما قال الله تعالى :« رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا»  قال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال الضحاك. وقال قتادة لا تُظْهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. واختاره ابن جرير[3]. وأهل الإيمان عندما يسقطون في فخ اليأس والقنوط ويظنون أنهم قد هُزموا وأنه لا ناصر لهم فإن الباطل يتسلط عليهم، فأهل الباطل لو تغلبوا في المعركة ولم تنكسر نفوس المؤمنين ولم ييأسوا فالباطل حقيقة لم ينتصر، وإنما كسب معركة على الأرض قد تُرد وتسترجع قريباً ما دام الإيمان قائما في النفوس، « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ».


[2] رواه ابن حبان بنحوه ، وصححه الألباني في السلسلة 1/7 .

[3] انظر تفسير ابن كثير (8/88)

Share this:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

يا سلوة الخاطر

مبارك عامر بقنه إذا جنّ عليّ الليل أخذ الحنين يعصرني والشوق يؤرقني، فروحي قد تماهت بها لوع…