‫الرئيسية‬ ترجمات الفلسفة الإشراقية
ترجمات - 18 أغسطس، 2020

الفلسفة الإشراقية

ترجمة مبارك عامر بقنه

نشأت  الفلسفة الإشراقية في القرن الثاني عشر في بلاد فارس، وكانت لها أثر قوي في الفلسفة الإسلامية، وخصوصا على الفلسفة الفارسية والتي لا زالت ممتدة إلى يومنا هذا. وهي تعمل على نقد بعض الأفكار الرائدة للفلسفة الأرسطية المتمثلة في فلسفة ابن سينا ، وترى أن كثيراً من الخصائص المتميزة والتي تعتبر قضايا حاسمة في الفلسفة الأرسطية أنه مضلل. وقد طوّر الاشراقيون رؤتهم للواقع وفق مبدأ : أن الماهية أكثر أهمية من الوجود. والمعرفة البديهية أكثر أهمية من المعرفة العلمية. وهم يستخدمون مفهوم النور، كما يوحي اسمها، باعتباره وسيلة لاستكشاف الروابط بين الله، نور الأنوار، وبين خلقه، وذلك برؤية الواقع كله كسلسلة متصلة مع العالم المادي كونه جانباً من الجوانب الألوهية. وهذا النوع من اللغة يوحي بشكل كبير أنها من ضمن البناء الفلسفي الصوفي، ولذا صنفت الإشراقية ضمن التصوف الإسلامي.

اولاً: أصولها:

تنبثق الفلسفة الإشراقية من المصطلح العربي إشراق ، وهو يعني “ارتفاع”، ولا سيما “ارتفاع الشمس”. ورُبط هذا المصطلح أيضاً في اللغة العربية “بالشرق”، وأخذت تمثل بشكل خاص التفكير الفلسفي الشرقي. واُستخدمت بشكل خاص داخل السياق الأدبي الشعري الفارسي، وهي تمثل شكل الفكر الذي يتناقض مع العقل المعرفي لاتخاذها البديهية، والتأملية، والمعرفة الخالدة. وفي الغالب تم التعرف على مصدر هذا التفكير من ابن سينا في “الحكمة المشرقية”، وهو النص الذي دار حوله كثير من الجدل والنقاش الكبير، مع احتمالية عدم حقيقة هذا النقاش. ويُفترض أن هذا النص يمثل رحيل ابن سينا من المشائين ومحاولته بناء نظام جديد فلسفي أكثر عمقا (انظر الإسلام، مفهوم الفلسفة).

والمصدر الحقيقي للفلسفة الإشراقية هو السهروردي، الفيلسوف الفارسي الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وألف أكثر من خمسين كتاباً إلا إن الذي يذكر في المقام الأول هو مختصره حكمة الإشراق (الفلسفة الإشراقية). تبنأ في هذا الكتاب السهروردي بعض المبادئ الرئيسة للمشائين، ولكنه أيضاً قام بوضع تحدي لهم. فانتقد منهج المشائين في كثير من المواضيع، وخصوصاً في مفهوم الازدواجية في الخلط بين “المصطلح” و “الكلام”، والعديد من القضايا الأخرى (انظر المشائين في الفلسفة الإسلامية). وهناك تشابه واضح في نقده بينه وبين “ويليام أكهام” الذي يحدد في “الخلاصة المنطقية” ما يعتبره عشرة مغالطات في المنطق الأرسطي. وكلاهما السهروردي و “أكهام” عملا على إعادة ترتيب الأجزاء في “الأورجانون” وقد حُذفت من مناقشاتهم في بعض الكتب.

ثانياً: المنطق والدلالات:

تتحدى الفلسفة الإشراقية موقف المشائين من المطلق، والثابت، والكوني على وفق الحقائق المكتشفة عن طريق منهجية أرسطو. وتسعى بدلا من ذلك لبناء نظام قابل للتطبيق كسلسلة متصلة للوجود، متضمنة بما يسمى “المعرفة المباشرة”. يرفض السهروردي نظرية أرسطو في الحد، بحجة أنه لا يوجد أي معيار لأجزاء الحد (جنس ونوع)، ولأنه تحد الأنواع بمصطلحات أدنى شهرة منها. وغني عن القول أن بعض المقولات الأرسطية  فيها إفراط، فبما أن الفعل والانفعال طرق للحركة، والملك والوضع هي أنواع من العلاقة. وبالتالي فنحن بحاجة إلى خمس مقولات فقط بدلا من عشرة، فترك الجوهر، والكمية، والكيفية، والعلاقة، والحركة.

أساس منهج السهروردي هو “الرواقية” و”ﺍﻟﻤﻴﺠﺎﺭيوﻥ”. ووفقا لهذا المنهج، ينبغي مقارنة دلالة (الموضوع الخارجي) مع الشيء، وينبغي مقارنة العلامة مع اللفظ، والمدلول مقارنته مع المعنى. وتستخدم مفاهيم دلالات الالفاظ لتحديد العلاقة بين الزمن الأول لعمل الفكر والزمن الثاني الممتد لإدراك الشيء المعرف وجوهره. وهذا يتضمن تطوير نظرية أنواع الدلالات، والعلاقة بين أسماء الفصول، وأنواع تضمين الأفراد في الفصول، ونظرية الظن الواضحة.

والمنطق في الرؤية الإشراقية، هو الاستنتاج المتوصل إليه من قبل استخدام القياس المنطقي بشكل أساسي وهذا ليس له قيمة معرفية كنقطة انطلاق في البناء الفلسفي. تعتبر مسألة التأكيد الكلي للقيمة الفلسفية أساس للمعرفة العلمية، التي يجب أن تكون “ضرورية وصحيحة دائما”. ونحن إذا أدخلنا عنصر “الاحتمالية” واعطيناه امتدادا في الزمن “كاحتمالية مستقبلية”، فلا يمكن أن تكون مسألة التأكيد الكوني “صحيحة دائما”. وهذا بسبب استحالة معرفة أو استنتاج كل المواقف المستقبلية المحتملة. فالتطبيق المعرفي للوضع المنطقي هو أقل مصداقية من اليقين المتحصل عليه من موضوع الشعور الذاتي والذي يُعرف بسهولة. وحدث المستقبل لا يمكن أن يستنتج في الوقت الحاضر ويُعطى مصداقية عالمية. (انظر المنطق في الفلسفة الإسلامية).

ثالثاً: نظرية المعرفة وعلم الوجود:

الفكرة الحاسمة لنظرية المعرفة الإشراقية هو المعرفة بواسطة الوجود (العلم الحضوري ) وهو يحدد الموقف المعرفي قبل اكتساب المعرفة (العلم الحصولي ). وهذا متعلق بالمعرفة البديهية، والنتائج المتحصلة هي محاولة لكشف أسرار الطبيعة لا عن طريق مبادئ الفيزياء ولكن من خلال العالم الميتافيزيقي والعالم الخرافي، والأحلام، والخيال والحقائق المعروفة عن طريق الإلهام. التمييز بين المعرفة العلمية والمعرفة من قبل الوجود أمر حاسم للسهروردي، الذي يدعي أن جوهر الإنسان يكمن في وعيه الذاتي من خلال إشراق وجوده الداخلي (انظر نظرية المعرفة في الفلسفة الإسلامية والعلوم في الفلسفة الإسلامية).

هذا المنهج له انعكاسات على علم الوجود. حيث تدافع الاشراقية عن “أولوية الماهية”، وتضع نفسها في مواجهة كل من أرسطو وابن سينا في الحفاظ على أولوية الماهية فوق الوجود. وبعض الفلاسفة الذين تمسكوا بأولوية الكينونة أو الوجود، اعتبروا الماهية مشتقة من التصور العقلي، بينما أولئك الذين ألتزموا بأولوية الماهية ، اعتبروا الوجود مشتق من التصور العقلي. وإذا كان الوجود في الواقع هو خارج العقل، لذلك فإن الواقع يجب أن يتكون من مبدأ واقعية الوجود وكينونته، والذي يتطلب مرجعية خارج العقل. ومرجعيه خارج العقل تتكون من شيئين، والذي بدوره يمكن أن يقسم، وهلم جرا إلى مالا نهاية.

إذا كان الوجود يدل على الموجود، فإنه يجب أن يكون هناك وجودا آخر مرتبطا به مما يجعله حقيقي
 إذا كان الوجود يدل على الموجود، فإنه يجب أن يكون هناك وجودا آخر مرتبطا به مما يجعله حقيقي، وإذا كان الأمر كذلك فهو ينطبق أيضا على “الوجود” الثاني، الأمر الذي يؤدي إلى الدائرة المغلقة. ولتجنب هذا العبث، يجب أن نعتبر الوجود كتجريد وتصور عقلي مشتق، فالوجود لا يمكن أن يدل على الكينونة الحقيقية. ولو كان هناك تمييز بين المادة خارج الذهن ووجودها؛ فإنها يمكن أن توجد عن طريق الصدفة، فإذا كان هناك مادتين خارجيتين فلابد أن يكون لديهما ماهيتين مختلفتين ولا يمكن أن تُميز عن طريق وجودها. في هذه الحالة، فالوجود ليس شيئاً سوى الفكرة العقلية، ولا يمكن أن تحد. وبما إن الوجود يمكن أن يعزى إلى أشياء كثيرة، فيجب أن يكون العقل.

رابعاً: النور:

تتميز الاشراقية عن المشائين من خلال الدلالات، والمنطق، ونظرية المعرفة، وعلم الوجود، والأولوية للحدس وأنه فوق العقل المحض، واستخدامهم لكلمة النور لوصف السلسلة المتصلة الكلية للواقع. وهذا الأخير يتكون من أربعة أشياء: العقل، والروح، والمادة، والحقل الرابع يسمى علم الخيال، الذي يشبه المثل الأفلاطونية إلا أن الكيانات متصلة مع الواقع الكلي. وهذا الحقل يمكن وصفه بأن الأشياء ـ” كالأفكار” السابقة على اتخاذ الشكل، قبل ما تستقبل “الاشراق” من مصدر واحد، “نور الأنوار”. والنور المستقبل هو بالضرورة نفسه، ويختلف الاشراق عن نور الكينونات فقط فيما يتعلق بدرجات الشدة. والاشراق يتدفق للأبد، ويعطي للأشكال شكلها، مما يجعل الكيان مرئي ومعروف. الفرق بين المخلوقات لا يكمن في كنهها ولكن من حيث درجات شدة جواهر المخلوقات. كل الاشراقات تشكل وحدة كلية متكاملة أزلية مع نور الأنوار. نور الأنوار هو واحد، ولكنه ليس متجاوز الكينونة ولا كينونة، وليس له إرادة. وكل شيء يتولد من نور الأنوار يشتركون في درجة تشابه النور. نور الأنوار هو واحد بالنسبة لكل الاحتمالات الممكنة، والمعروفة أو المكتشفة لاحقا.

وقد اتخذت هذه الإشارات الموحية بقوة النور من قبل عدد كبير من المفكرين المتأخرين والذين طوروها بطرق مختلفة وبصورة مترابطة. وفقا للنسفي، فإن وجود الله هو النور اللانهائي، وهو الوجود الذي يكافئ ماهيته ، وكل شيء يوجد فهو وجه أو تعبير عن هذا النور. الله هو الحقيقة المطلقة لكل شيء يوجد في هذا الكون. يرى “بابا افضال كاشاني” أن فكرة الكينونة هي أعم من فكرة الوجود، ولنا أن نتساءل أي شيء يوجد حقيقة؛ الكينونة السابقة للوجود، الممارسة لنور خلق الله فقط من خلال الاشراق الداخلي للروح. هذه النتائج ليست في معرفة الحقيقة أو الشيء، ولكنها في طريقة العلاقة بالله، الطريقة التي تحافظ على مكانة الفرد كجزء من الإله. وأحد مظاهر الاشراقية الأساسية هو نفورها لإنشاء تميز واضح بين الإله وما أنتجه هذا الإله. هذا هو ما جعل الفلسفة الإشراقية تبدو قريبة جدا ـ في بعض الأحيان ـ من التصوف ، وهي تقود إلى تميز حاد عن مظهر الفكر الأشعري، كالالتزام بالذرة باعتبارها المقوم الأساسي للواقع المادي.

خامساً: طابع الفلسفة الإشراقية:

استمر تأثير الفلسفة الإشراقية على العالم الإسلامي إلى يومنا هذا. فمجموعة واسعة من المفكرين المتميزين بما في ذلك ناصر الدين الطوسي، وشمس الدين الشهرازوري، وقطب الدين الشيرازي، وجلال الدين الدواني، ومدرسة أصفهان، وصولاً إلى أيامنا هذه، الحائري اليزدي، فهم ينتمون بشكل واضح ضمن هذا التقليد الفلسفي. فعندما يتعلق الأمر بقضايا في التفسير، فهناك جدل: وهو كيف نُقرّب شكل هذه الفلسفة في الواقع إلى الصوفية. بعض الكتاب من أمثال ليزوتسو (1971)، عبد الرحمن (1975) وزياي (1990)، أكدوا ربطها مع التفكير التحليلي وأنكروا وجود أي صوفية خاصة حولها.  ومن الحق،  أن أكثر الاهتمام رُكز على جزء صغير نسبيا من أعمال السهروردي والتي لها طابع باطني، بينما أكثر أعماله والأعمال المنطقية الصارمة منها يجهلونها الناس.

أعمال هنري كوربن (1971) وسيد حسين نصر (1964)، تؤكدان على الإسهام الصوفي في صناعة الاشراقية. ويذهبا إلى أن الظواهر الباطنية له أهمية كبرى في هذا النوع من التفكير. وليس هناك شك في أن الاستخدام العام الذي وضعه الفلاسفة الإشراقيون غالبا ما ينطوي على التصوف، مع إن هناك صعوبة كبيرة في الجمع بينها وبين فكر ابن عربي مثلا، والذي قام به الفلاسفة لاحقا. ومن الحقيقة المؤكدة أن بعض النصوص الرائدة للسهروردي هي اختصاصية بالكلية وتتعامل مع قضايا الفلسفة دون أبعاد صوفية،  ولكن يجب أن نعترف أنه عندما يفحص المرء منهجه العام في الميتافيزيقيا، فتجد التناسب بشكل واضح مع كثير من الأفكار التي يتعاطاها الصوفيون. فمصطلح النور يشير إلى وجهة نظر طبيعة الواقع والذي أستبعد تماما عن تلك التي قدمها المشائيون، أو حتى ابن سينا في أكثر إيحاءاته ومزاجه الباطني. الاشراقية ليست مجرد نقد لارسطو وابن سينا، ولكنها أيضا تطوير للنموذج الميتافيزيقي الأصلي الذي ثبت في وقت لاحق ثمراته الجيدة داخل العالم الإسلامي.

لقراءة المقال بلغته الأصلية من هنا 

Share this:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الشخصية الضحية

مبارك عامر بقنه هل شعرت يوما أن معاناتك في هذه الحياة ليس لك علاقة فيها، وإنها نتيجة خطأ ا…