مقالات أدبية - 27 أغسطس، 2020

أماه أرثيك حبا

مبارك عامر بقنه

بأي حرف انسج كلماتي، وأي عبارات تحوي معاني نفسي، لا أجد القلم قادراً على تسطير ما بفؤادي، فزفرات قلبي وأنين روحي لا يمكن ترجمتها لفظا، فلحظات الحزن وألم الفراق لم يبقِ لي لفظا أنطقه .. فلقد أضحى الصمت لي أنيسا والبكاء رفيقا.

أماه .. أبكيك شوقا .. فلن تحدّق عيني بجسدك النحيل ..

وأبكيك حنينا .. فلن تسمع أذني نداءك وصرخاتك وضحكاتك وهمساتك ..

وأبكيك فراقا .. لحديثك ولابتسامتك ولنصائحك ..

أبكيك لدعواتك ليلا ونهارا .. فمن لي مثل قلبك يدعو لي؟ رحمك الله ورحم الله لسانك الرطب بذكر الله.

أماه .. أبكيك حباً فقد ملكتي قلبي، وأسرت فؤادي، كم كنت تألمين لألمي، وتحزنين لحزني، وتفرحين لفرحي، آه ..  كم يصيبك من هم وقلق وضيق عندما تشاهديني أتلم من مرضي،

أتساءل دوما: كيف عرفت أنني أتلم وأنا أكتم ألمي خوفا عليك؟ أشعر كأن أعضائي في جسدك تشعرين بألمها فتبكين رحمة بي وشفقة علي، أي رهافة حس وأي قلب هذا الذي يسكن جوانحك! رحمك الله ورحم الله روحك الزكية.

أماه .. أبكيك حسرة وألما، لقد كنت لي ملاذا بعد الله، فإذا ضاقت على الأرض، وأدلهمت علي الخطوب، ذهبت إليك لأحدثك وأشكي إليك وأبث ما أجد في نفسي، كنت أجد معاناتي تتلاشى عندما أراك وأجالسك وأحادثك فأجد حديثك بلسما لمعاناتي .. فمن أجالس بعدك ومن أسامر؟ رحمك الله ورحم الله قلبك الطاهر.

أماه .. لقد رحلتي  من هذه الحياة ولكنك لم ترحلين من فكري وقلبي وخواطري، أرى خيالك أينما ذهبت، فأراك الشابة القوية التي تحملني وتضاحكني وتلاعبني، وأراك تارة المرأة الحكيمة التي تنصحني وتعلمني وتعضني، وأراك أخرى المرأة الكبيرة التي أرهقها المرض وآلمتها السنون، أرى طيفك لا يفارقني، أراك في يقظة ومنامي، أراك قد نقشت في قلبي ذكراك العطر .. فرحمك الله ورحم الله جسدك النحيل المنهك.

أماه .. أعذريني، كنت أراك وأنت تتألمين وتشتكين وأنا لا أستطيع أن أدفع عنك ألمك أو أخفف معاناتك، أعذريني يا أمي .. كان والله ألمك يعصرني ويكاد قلبي يتفطر دما مما أرى ما أصابك .. وتزداد معاناتي وأنت تأنين من شدة الكرب .. لقد اتخذ المرض من جسدك مأوى له فعاش بين أضلاعك سنين عديدة .. كنت تحاولين جاهدة أن تخفين ألمك فتصمتين الأنين وتدفعين الشكوى براحتيك كي لا يشعر جليسك بألمك ومرضك .. ومع ألمك ترجين ثواب ربك فتسأليني بحرص وقلق: ولدي، كيف يحتسب المريض؟

يا رب .. اجعل ما أصابها كفارة لخطئها ورفعة لدرجاتها وزيادة في حسناتها.

أماه .. أنا لا أبكيك جزعا أو سخطا إنما أبكيك فراقا وشوقا .. أبكيك حب الابن لأمه وحُب المرأة الصالحة الطاهرة .. فوالله ما عرفتك إلا مصلية ذاكرة شاكرة لله تعالى، منفقة ما بيدك لمن تعرفين من الفقراء والضعفاء .. تتألمين كثيرا عندما تسمعين عن محتاج لا يجد من يسد خلته .. تفكرين في الآخرين أكثر من نفسك .. لقد رأيت فيك صفات لا أكاد أجدها إلا في قلة من الناس .. فرحمك الله يا أمي رحمة واسعة وجعل الجنة مثواك، ورحم الله المسلمين الأحياء والأموات .. وأسأل الله أن نلتقي يا أمي في دار كرامته وسلام الله عليك ورحمته.

Share this:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

يا سلوة الخاطر

مبارك عامر بقنه إذا جنّ عليّ الليل أخذ الحنين يعصرني والشوق يؤرقني، فروحي قد تماهت بها لوع…